السبت، ٢١ يوليو ٢٠٠٧

محمود البدوى فى اطلالة جديدة ـ بقلم الشاعر فاروق شوشة

محمود البدوي في اطلاله جديده

بقلم‏: ‏فاروق شوشه

عنوان الدورية : صحيفة الأهرام
تاريخ النشر : 7/9/2003

منذ خمسينيات القرن الماضي وأنا اقرأ لمحمود البدوي وأقرأ عنه‏.‏. كانت قصصه القصيره تنهمر علي القراء من خلال الصحف اليوميه والمجلات الأسبوعيه فضلا عن بعض المجلات الأدبيه المصريه والعربيه أذكر بعضها الآن دون ترتيب‏:‏

الرساله‏,‏ اخبار اليوم ‏,‏ الزمان ‏,‏ الأديب البيروتيه ‏,‏ الجمهوريه ‏,‏ الجيل ‏,‏ الاهرام ‏,‏ الشعب ‏,‏ المساء الأسبوعي ‏,‏ آخر ساعه ‏,‏ التعاون ‏,‏ الثقافة‏ ,‏ الإذاعه والتليفزيون ‏,‏ المجلة ‏,‏ الهلال‏ ,‏ مايو ‏,‏ العصور‏,‏ روزاليوسف ‏,‏ الرساله الجديدة ‏,‏ المصور ‏,‏ بالاضافه الي مجموعاته القصصيه العديدة .‏.

كنت‏,‏ وكثير من أبناء جيلى ,‏ الذين كانت الخمسينيات بالنسبه إليهم مرحلة طلب العلم في الجامعة ‏,‏ والتعرف علي القاهره لأول مرة ,‏ واكتشاف كثير من رموز الحياة الأدبية والثقافية ألذين لم تقتحم أسماؤهم الخافتة ‏,‏ حياتنا البعيدة المنعزلة في قرى مصر وكفورها البعيدة ,‏ نتابع في سعادة ومتعة بالغة قصص محمود البدوى ‏,‏ جذبنا قبل كل شىء هذا العالم الرحب الذى دارت فيه وقائع قصصه وعوالمها وأحداثها وشخصياتها وما تميزت به هذه العوالم‏ ,‏ خاصة في بلاد الشرق الأقصى حين أتيحت للبدوى زيارات ورحلات ملهمة للعديد من قصصه التي كتبها من وحي اليابان والهند وهونج كونج وصولا إلى روسيا‏ ,‏ فضلا عن العديد من البلاد الأوروبيه ‏,‏ مضافا اليها قصصه من الصعيد والإسكندريه والسويس والقاهرة ..

‏ نعم كنا مبهورين بهذا التنوع في الأحداث والشخصيات والطباع والعادات والتقاليد ‏,‏ وهذه الوفرة فى الإنتاج‏ ,‏ الأمر الذى يؤكد ان الكتابه الأدبيه بالنسبه لمحمود البدوى كانت كالتنفس ‏,‏ لا تكلفه جهدا أو مشقة ‏,‏ وإنما هو يمارسها وكأنها واحده من عاداته اليومية ‏,‏ متمرسا بالكتابة‏ ,‏ وعارفا بأصول صنعته القصصية وإبداعه الفنى فيها ..

وجذبتنا إلى قصص محمود البدوى لغته السهلة التي تتدفق وتنساب في يسر وطواعية دون مشقة أو اعنات أو تكلف أو معاظلة يكتب كما يحكى أو يتكلم .‏.

‏ ومع ذلك فهى لغة لاتسف بحيث تختلط بلغة الناس العادية ‏,‏ أو مفردات قاع المجتمع ‏..‏ فهو حريص علي أن تظل لغة أدبية‏,‏ موحية لها مجازها وفتنتها الخاصة ‏,‏ التي لا تجعلها بعيده عن مستوي المتلقى ‏,‏ أو ثقيلة علي نفسه‏ ..‏ بينها وبين لغه يحيى حقى وإبراهيم عبد القادر المازنى وشائج قوية وصلات حميمة ‏,‏ بالرغم من أنها تخلو من انضباط لغة يحيى حقى وأناقتها وحتميتها ‏,‏ وليس فيها ولع المازنى بالمزيج اللغوى بين الفصحى والعامية أو سخريته وتوقفه الحاد أمام الشخصيات والمواقف وكانت هذه اللغة السهلة الجميلة مدخلنا الرحب إلى عالم محمود البدوى في قصصه القصيرة وفي كتاباته عن أدب الرحلات في الشرق والغرب .‏.‏

ودار الزمان دورات .‏.‏ اقتربت خلالها كثيرا من عالم محمود البدوى بفضل عديد من المقالات والدراسات الكاشفة عنه إنسانا ومبدعا ‏.‏.

كان في طليعتها المقال الجميل الذي كتبه الصديق الناقد الكبير رجاء النقاش بعنوان " القصاص الشاعر " المنشور في مجلة الشهر عدد يناير‏1959,‏ مشيرا لأول مره إلى السبب الثالث الذي حببنا في قصص محمود البدوى وهو هذا الطابع الشاعرى الذى يكسو كتاباته وتفيض به لغته فى رهافة تذكرنا بكتابات القصاص الروسى العظيم تشيكوف خاصه في حنوه علي شخصياته الإنسانيه وتعاطفه معها ورثائه لمصائرها في رقة بالغة وقلب يفيض بأنبل العواطف والمشاعر ‏..

وفي هذا المقال المبكر عن محمود البدوى قال رجاء ‏:
‏ عرفت من بعض المتصلين به أنه أصيب بصدمة عاطفية في مطلع حياته وهو طالب في الجامعة ‏,‏ وقد أدت هذه الصدمة به إلى أن يترك الدراسة ‏,‏ بل ترك مصر كلها وسافر لفتره إلى أوروبا ‏,‏ وكان لديه بعض المال فصرفه كله علي هذه الرحلة التي أراد بها أن يجرب وينسى ‏,‏ وربما تكون هذه التجربه هي السبب فى انطوائه وعزلته ، وكان رجاء يحاول تفسير تركه لكلية الآداب بعد أن التحق بها ‏,‏ وايثاره البعد عن الجامعة وعن مصر‏,‏ وهو أمر يقول عنه محمود البدوى في حوار نشرته الجمهورية فى ديسمبر‏1975 " التحقت بكليه الآداب ‏,‏ ولم أكمل المشوار لأننى انتقلت إلى كلية الحياة وهى أرحب ولاشك من كلية الآداب ‏,‏ ولم آسف على ذلك قط ..

ولد محمود البدوى في الرابع من ديسمبر عام ‏1908 ,‏ وتوفى فى الثاني عشر من فبراير عام‏1986..

وفي الكتاب الجميل عن سيرته بقلم ابنته السيده ليلى محمود البدوى وزوجها الأستاذ علي عبد اللطيف الذى أهدياه لي ومعه مجموعاته التي صنفاها وسمياها‏ :‏
قصص من الإسكندرية ‏,‏ قصص من اليابان ‏,‏ قصص من روسيا‏ ,‏ وقصص من هونج كونج ‏,‏ وكتاب محمود البدوى والقصة القصيره بقلم الأستاذ على عبد اللطيف المحامى .. دراسة أدبية تحليلية للبدوى الإنسان وعالمه القصصى ..

في هذا الكتاب كثير من التفاصيل التى تلقى الضوء علي نشأة محمود البدوى وطفولته ‏,‏ وأسرته‏ ,‏ وتعليمه ‏,‏ والوظائف التى مارسها ‏,‏ ورحلاته وأسفاره العديدة ‏,‏ ومفاتيح كثير من أسرار حياته وابداعه‏ ..‏

يقول محمود البدوي عن أمه ومدى تأثيرها فيه ‏:
‏ ومع أن أمى لم تكن حاصلة علي شهادة دراسية ‏,‏ إلا أنها كانت متعلمه ‏,‏ وإليها لا إلى أبي يرجع الفضل فى تعليمى القراءة والكتابة ‏.‏ ومن الطريف أنها قامت هى نفسها بهذه المهمة ‏,‏ ولنذكر أن ذلك كان في عام‏1915‏ تقريبا ‏.‏ وعلي لوح من‏ ‏الاردواز ‏,‏ بدأت اكتب وأحفظ الحروف الهجائية ‏.‏ وكانت أمى ككل الأمهات في ذلك العهد ‏,‏ تتفاءل برؤية مولد الهلال ‏,‏ ففي أول أيام الشهر الهجرى كانت تصعد بي الى سطح المنزل الواسع ‏(‏ بيت الوسية ‏)‏ في قرية الأكراد حيث تزوجت وولدت أنا ‏,‏ وترنو إلى الهلال وهى تقرأ بعض سور القرآن ‏,‏ واضعة يدها على وجهى مقبلة جبينى داعية الله أن يقينى شرور الحياة ‏.‏

وفى واحدة من المرات النادرة التى وافق فيها محمود البدوى علي أن يفضى ببعض تفاصيل حياته ، وأهم الموثرات في رحلته مع الكتاب ، وكان الحوار مع مستشرقه روسية اسمها ثريا جاءت من طشقند إلى القاهرة ‏,‏ وأخذت تلح عليه من منطلق أنها جاءت إلى القاهرة متطوعة لدراسة القصة المصرية ‏,‏ ولابد من لقائه لهذا الغرض‏ ,‏ خاصة أن استاذها في جامعة طشقند هو الذى اختار لها هذا البحث وأصر على ضرورة لقائها مع محمود البدوي ‏..

‏ يقول هو عن هذا اللقاء في سياق ذكرياته المنشورة فى مجلة الثقافة ‏(‏ عدد نوفمبر‏ 1979 )‏ وقد سألته المستشرقه ثريا عن مذهبه في الكتابة ‏:‏
ضحكت فى نفسى من هذا السؤال الأكاديمى ‏,‏ فأنا أكتب ماأشعر به ‏,‏ وأحسه بوجدانى ‏,‏ وأعيشه فى حياتى ‏,‏ وأكتب عن تجربة صادقة ‏.‏ ولا أفتعل الحوادث ولا أزينها ‏,‏ ولا أتقيد بمذهب ولا أعرف المذاهب ‏.‏ وأنا واقعى مثل فلوبير وديكنز وجوركي وتشيكوف ، وطبيعى أحيانا مثل زولا ‏.‏ وهؤلاء لم يدرسوا الواقعية ولا الطبيعية قبل كتابتهم ‏.‏ وإنما كتبوا بالفطرة متأثرين بالجو الذى يعيشون فيه ‏,‏ وبالأشخاص الذين يلتقون بهم في الحياة ‏,‏ فشخوصهم حية عامرة بنبض الحياة ‏,‏ ولهذا عاشت قصصهم ‏.‏
وأنا متشائم أحيانا ‏,‏ ومتفائل جدا أحيانا أخرى ‏,‏ تبعا لمدارج حياتى ‏.‏ ولم أتلق الكتابه عن أستاذ ‏,‏ ولم يوجهنى شخص ‏.‏ وأكتب فيض مشاعري ‏,‏ لأنفس عن نفسي وأعيش ‏.‏ ولو لم أكتب لمت بالسكتة من فرط الاحساس بعذاب الناس ‏,‏ وماتطحنهم به الحياة ‏,‏ وماتصيبهم به قارعات القدر ‏,‏ ومايلاقونه من عنت وظلم فى العجلة الدوارة ..

وأنا كالشاعر الذى يقول الشعر بالسليقة قبل أن يتعلم العروض‏ ,‏ وأكتب قبل أن أعرف المذاهب الأدبيه ومعرفتها هراء في هراء ‏,‏ والكتابة القصصية فن والهام يأتيان بالفطرة ‏,‏ والقراءة والدرس لاكتساب الشكل الفني الأمثل وتجويده ‏,‏ ولاتساع مدارج التفكير وعمق النظرة للحياة ‏,‏ وقد تأثرت بالمازني ككاتب روائي وأديب متفرد ‏,‏ وأسلوبه من أحلي وأجمل الأساليب العربية ,‏ كما أن شوقى أعظم الشعراء‏ .‏.

وقد مهد لي سبيل الكتابة والنشر أستاذى الزيات ‏.‏ ولولاه ما واصلت الكتابة ‏,‏ ولا كتبت حرفا ‏,‏ ولأصابني العجز والضيق فى أول الطريق ‏,‏ وكانت رسالته رحمه الله رسالة الرسالات‏ ,‏ وقد عجزت الدولة من بعده بكل إمكانياتها أن تخرج مثلها ‏,‏ فالعمل الأدبي اخلاص وتضحية ‏,‏ ولايزيد ولاينقص بعدد الأشخاص الذين يتولونه‏ .‏ وأنا آخذ الشكل الفنى من تشيكوف في لمساته الإنسانية وصدقه في العرض وعنايته بالشخوص المسحوقة هي موضوعى الأمثل فيما أكتب ..

وأستفيد من كل كتاب أقرؤه ‏,‏ وما رددت كتابا وقع في يدي قط‏ ,‏ ولا استثقلت ظله‏,‏ فأى كتاب تقرؤه سوف تستفيد منه ‏.‏
والنهضه الأدبية عندنا عظيمة ‏,‏ ويعتريها المد والجزر ككل شيء في الحياة ‏,‏ وهناك تطور ملموس في الرواية والقصة القصيرة وتجديد وخلق لا ينكره أحد ..

فإذا ماسألت أيها القارىء ‏...‏ ولماذا ظل اسم محمود البدوى في الظل ‏,‏ بعيدا عن الدوران في وسائل الاعلام ‏,‏ حيث مجالات الشهرة وذيوع الصيت ‏,‏ لايعرفه إلا الخاصة ولا يقدره حق قدره إلا الصفوة من النقاد والقراء ‏..

فأغلب الظن أن طبيعته الحييه الكارهة للأضواء وكل صنوف الشهرة والدعاية كانت سببا رئيسيا لهذه العزلة وهذا الانطواء‏ ,‏ أضيف إليها سبب آخر لايقل أهمية وتأثيرا عن السبب الأول هو العاصفة التى أثارها المبدع الكبير يوسف ادريس بقصصه القصيرة التى تفجرت بواكيرها في حياتنا الأدبيه في منتصف الخمسينيات وكأنها البركان أو الزلزال ‏,‏ فقد حجب الاهتمام بها والانبهار بجدتها كل ماعداها من الصيغ والطرائق والأساليب فى كتابة القصة القصيرة ‏,‏ ورأى فيها النقاد والقراء علي السواء رياده جديده مغايرة للسائد والمألوف ولم توثر هذه العاصفة الابداعية علي محمود البدوي وكتاب جيله وحدهم ‏,‏ لكن تأثيرها امتد إلى أجيال كانت أكثر شبابا ومعاصرة ليوسف ادريس خاصة جيل ‏:‏ أبو المعاطي أبو النجا وسليمان فياض وصالح مرسى وفاروق منيب وعبد الله الطوخي وغيرهم ‏.‏ ولولا أن بنيانهم الابداعي كان راسخا وقويا ‏,‏ واصرارهم علي التمايز والاختلاف وتحقيق ذواتهم كان عنيدا وواعيا ‏,‏ ماقدر لكل منهم ان يحقق مشروعه الابداعي ‏,‏ بعيدا عن عباءه يوسف ادريس‏,‏ وأثار عاصفته العاتية ..

ربما رأى البعض أيضا في قصص محمود البدوي‏,‏ اثارة‏ من الطابع السياحى أو طابع أدب الرحلات ‏,‏ السريع التنقل الكثير التجوال والتطواف‏ ,‏ المولع بالأسفار وغرائب الحكايات والأحداث والمواقف ‏,‏ لكن مثل هذا الحكم يظلم كثيرا مما أبدعه محمود البدوي في نماذجه الإنسانية ‏,‏ ووقفاته العميقة المتأملة ‏,‏ وحرصه علي شروط الفن القصصى وضوابطه ، شأن الكاتب العارف الصناع ..

لقد كتب عن محمود البدوي وفنه القصصي كثيرون في طليعتهم رجاء النقاش وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم ود‏ .‏ غالي شكري وفؤاد دواره ود‏ .‏ سيد حامد النساج‏ ,‏ ود ‏.‏ السعيد الورقي ود ‏.‏ محمود الحسينى ود‏.‏ سمير سرحان ومحمد جبريل وعلاء الدين وحيد ومحمد محمود عبد الرازق وسعيد جودة السحار ويوسف الشارونى ود ‏. ‏الطاهر مكى وإبراهيم سعفان ومحمد قطب وآخرون ‏.‏ هذه الكتابات لو جمعت من شأنها أن تقدم إضاءة عميقة وكاشفة ‏,‏ عن واحد من المبدعين الكبار فى تاريخنا الأدبي الحديث ‏.‏

فور رحيل محمود البدوي في عام‏1986‏ قدمت عنه حلقة فى برنامج الأمسية الثقافية شارك فيها عدد من النقاد العاكفين على قصص محمود البدوي دراسة وتحليلا ‏,‏ قلت في تقديمها‏ :
‏ عاش البدوى حياته الطويلة في صمت‏ ,‏ بعيدا عن ضجيج الحياة والمجتمع ‏,‏ لم يعن أبدا بأن يكون واحدا في مجموعة أو هيئة أو تجمع أدبى ، ولم يكن يشغل نفسه أن ينتمى إلى أحد ‏,‏ ولا أن يكون في شله ‏,‏ ولا ان تسلط عليه الأضواء ‏...‏ وهي كلمات أختتم بها هذا المقال شاكرا للسيدة الكريمة ليلى محمود البدوي وزوجها الفاضل الأستاذ علي عبد اللطيف المتعه التي اتاحاها لي بإعادة قراءة محمود البدوى من جديد .‏.‏
================================
نشر المقال فى صحيفة الأهرام يوم الأحد الموافق 7/9/2003
=================================

ليست هناك تعليقات: