السبت، ٢١ يوليو ٢٠٠٧

الذئاب الجائعة و الزلة الأولى ـ للناقد الكبير الدكتور محمد مندور

الذئاب الجائعة و الزلة الأولى

دراسة للناقد الكبير الدكتور محمد مندور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنوان الدورية : ص . الشعب
تاريخ النشر : 30/8/1959
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ


حملت معى أيضا إلى رأس البر مجموعتين من القصص لكاتبنا المخضرم محمود البدوى ، وهما " الذئاب الجائعة " و " الزلة الأولى " ، وخيرا فعلت وذلك لأن رأس البر يسمح بالاستجمام والقراءة ، ففيه هدوء الريف إلى جوار مباهج المصيف .

ومنذ أن تطلق مياه النيل فى منتصف شهر أغسطس وتتعطل السباحة فى النيل على شط " الجربى " تصبح القراءة على شاطىء البحر لمثلى متعة حقة حيث لا حرارة تبلد الذهن ولا رطوبة مثبطة ترهق العصب .

ولقد كنت تواقا منذ حين إلى أن أنظر عن قرب فى فن الأديبين سعد مكاوى و محمود البدوى ، وقد فرغت من أولهما فى الأسبوع الماضى ، وهأنذا أتحدث اليوم عن الانطباعات التى خلفتها فى نفسى مجموعتا محمود البدوى ..

لقد سرنى أننى استطعت أن أحس من بعض قصص البدوى ببيئته الأولى وهى الصعيد ، وازداد سرورى عندما أكد لى صديقى وزميلى فى المصيف أحمد رشدى صالح صدق احساسى ، إذ أخبرنى أن البدوى من مديرية أسيوط فعلا . وكم أود أن لو عاد كتابنا كل إلى بيئته الأولى ليصور الحياة فيها بدلا من أن يتجمعوا على المدينة ويكرر بعضهم بعضا ..

والقصص التى طالعت فيها وجه الصعيد ، وجدت خيرها فى مجموعة " الذئاب الجائعة " التى يذهب إليها تفضيلى ، ولعل قصة " الذئاب الجائعة " بالذات قد راقتنى أكثر من غيرها ، وذلك لأننى علمت منها جديدا أو ما يشبه الجديد عن قسوة الحياة فى هذا الصعيد حيث يضطر الفقر والجوع بعض الناس إلى احتراف السطو كما تفعل الذئاب الجائعة ، ولهذه الحرفة عندهم أصول مرعية ، فهم مثلا يحملون على أكتافهم المرهقة من يسقط قتيلا من أفراد العصابة حتى يصلوا به إلى الجبل ويواروه التراب خوفا من أن يتركوا أثرا للجريمة ، واشفاقا على جثته من المهانة . وهم لا يظهرون جزعا أو خوفا ولكنهم مع ذلك يأسون لمن فقدوا من رفيق ..

وبذلك صور لنا البدوى لونا من الوان الحياة التى لا نعرفها فى المدينة بل ولا نعرفها فى ريف الدلتا الذى نشأنا فيه ..

وفى المجموعة قصص أخرى تصور جوانب أخرى من حياة الصعيد مثل قصة " فى القرية " التى تخطط لحياة الأجراء الذين يعملون فى رفع الماء من النيل إلى ربوات بواسطة الشادوف على ثلاث مراحل ، يعمل فى كل مرحلة ثلاثة رجال ، كل على شادوف ، ويتبادلون مواقعهم لتوزيع الجهد ، ويعمل كل منهم اثنتى عشرة ساعة مقابل ثلاثة قروش ..

وإذا مرض أحدهم أو أصيب ، ظل يقاوم المرض أو الاصابة بقوة الطبيعة الكامنة فى جسمه قابعا فى قاعته المظلمة ..

وقد صور محمود البدوى مثل هذه الحالة تصويرا دقيقا على لسان بطل هذه القصة بقوله :

" وطالت أيام مرضى .. فلم يكن هناك علاج ولا طب ، فقد تركت نفسى لرحمة الأقدار .. وتطور الجرح ، وأصبت بالحمى ، وكنت أهذى طول الليل فى غرفة حقيرة قذرة ليس فيها نور ، ولا هواء ، ولا تراها عين الشمس . فلم يكن فيها غير منفذ واحد ، وهو بابها الصغير .. ! وكانت الحشرات تمرح فيها فى الليل ، والذباب يملأ جوها فى النهار ، والروائح الكريهة تنبعث من كل مكان .. وكنت ملقى على حصيرة قذرة فى ركن من الغرفة ، وتحت رأسى وسادة أقذر منها .. فأى عذاب وألم ، وأى حياة يحياها الريفى المسكين.. ؟ إنه إذا عاد من الحقل ، ودخل البيت ، أو ما يسمى بيتا شعر بالاختناق ، ولكن حسه يبلد على مر الأيام ، وعينه تألف القذارة ، كما يتعود بطنه الجوع . فإذا مرض أرهف حسه ، ورجعت إليه مشاعره من جديد ، وذكر المدينة وما يجرى فيها .. وراح يتصور القصور الشامخة ، والحدائق الغناء .. والمستشفيات والأطباء فى كل مكان فى المدينة .. وتفتحت آفاق نفسه ، وتاقت لأطايب الحياة ومناعمها ، وتحسر على ما مضى من عمره فى فقر وعذاب ، وأحس بالألم ، وويل للمظلوم إذا شعر بأنه مظلوم ".

ومن البديهى أننى كنت أفضل لأديبنا فى هذه الفقرة وأمثالها أن يظل داخل اطار قصته وألا يخرج من التخصيص إلى التعميم فيحتفظ بالحديث مقصورا على بطل قصته دون أن يعدوه إلى أهل الريف عامة لأنه يخرج بذلك عن أصول الفن القصصى إلى مجال البحث الاجتماعى ولقد كان من السهل أن يجرى كل هذا الحديث على لسان بطله ..

وعلى أية حال فأقصوصة " فى القرية " قد انسحب عليها لسوء الحظ منهج البدوى العام فى كتابة القصص ، إذ لم تلبث أن ظهرت فيها المرأة ، فاتجهت الوجهة التى تتخذها معظم قصص البدوى وهى محاولة البطل تصيد هذه المرأة من الغجر تعمل راقصة ثم يتنافس عليها البطل وعباس زميله ، وينتهى الأمر طبعا بأن يقتل أحدهما الآخر ويذهب إلى السجن ..

والواقع أن مسألة المرأة والرجل والعلاقة الجنسية بينهما تحتل مكانا مسرفا فى قصص البدوى حتى لا تكاد تخلو منها قصة واحدة ..

والعلاقة بين الرجل والمرأة فى قصصه تضمر حتى تقتصر على مجرد تصيد الرجل للمرأة ، وكثير من قصصه تنتهى بالفراغ من هذا الصيد ، كالأعمى الذى تنتهى قصته بحمل المرأة والدخول بها فى حقل ذرة ، وكالبطل الذى ينتهى فى قصة القطار الذاهب من بوخارست إلى كونستنزا برومانيا لتصيد امرأة رافقته فى هذا القطار ..

والبدوى يؤمن بأن العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة قضاء محتوم لا مفر منه إذا التقيا وخلا لهما الجو .. وقد يكون على حق ، ولكن الحياة لا يمكن أن تضمر حتى لا يعود فيها شىء غير هذا القدر المحتوم ، وما ينبغى أن تصبح هذه العلاقة المحور الوحيد لكاتب كتب عشرات القصص ، وإلا وقع فى التكرار الممل ..

والبدوى يصور نساء الريف والحضر ومن بلاد مختلفة فى أنحاء العالم التى يلوح أنه قد زارها ، ومع ذلك تتكرر نفس الحادثة فى كل هذه القصص وتنتهى بها قصصه وكأنها هدف فى ذاته مما يجعلنا نفتقد فى مثل هذه القصص هدفا أسمى أو فكرة أخرى بل ويشعرنا بأن القصة قد أقتضبت نهايتها ، أو انقطع خيطها ..

كم أود أن لو خرج أديب فنان كمحمود البدوى عن هذا المحيط الضيق الذى حبس نفسه فيه ليتحرر من هذه الفكرة الوحيدة المسيطرة لينظر حوله ويتأمل بيئته فى صعيدنا النائى ليصور لنا ما يعج فيه من مظاهر الحياة ومآسيها ومن مشاكل الناس ومواضع بلواهم ومنابع سرورهم ، وعندئذ يستطيع أن يجدد نفسه ، وأن يجد لطاقته الفنية المرهفة مجالات أكثر إنسانية ورحابة ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القصص التى وردت فى هذه الدراسة :
(1) الذئاب الجائعة
منشورة على الرابط

http://elbadawy28.blogspot.com/2006/12/blog-post_6382.html

(2) فى القرية
منشورة على الرابط
http://elbadawy28.blogspot.com/2006/12/1944.html

(3) الأعمى
منشورة على الرابط
http://elbadawy28.blogspot.com/2006/12/blog-post_31.html

(4) فى القطار
منشورة على الرابط
http://arabicstory1908.blogspot.com/2006/12/blog-post_5063.html

ليست هناك تعليقات: