السبت، ٢١ يوليو ٢٠٠٧

قراءة فى عالم محمود البدوى القصصى ـ دراسة للناقد إبراهيم سعفان

قراءة فى عالم محمود البدوى القصصى

دراسة للناقد : إبراهيم سعفان

نشر فى كتاب :
من أبحاث المؤتمر الأول للقصة القصيرة . نادي القصة بالقاهرة . يونيو 2007

عاش في محرابها متيماً بها
يقرأ الحرف فيفك الرمزيجلو سرّه
ولما ارتوى... وعرف الطريق ورأى
النور...
أقسم أن يكون وفياً لها...
عاش راهباً في محرابها...
وصارت "راهب القصة القصيرة"رمزاً له...
إنه الأديب الكبير محمود البدوى


إنه الأديب الفنان الذي... أمتعنا بفنه وفكره... صارت القصة القصيرة أرضه التي يحرثها ، ويغرس فيها بذور الحُبّ والوئام والإخلاص،... أبّر بوعده ، وأعلن بيانه ، فقال :
(أكتب ما أشعر به وأحسه بوجداني ، فأعيشه في حياتي ، وأكتب عن تجربة صادقة ، لا أفتعل الحوادث ، ولا أزينها ، أحاول الوقوف مع مكسوري الجناح من البشر ... وأرفع الظلم عنهم ، وسأظل أدافع عن المسحوقين حتى يكون لهم الحق في الحياة ، ولو لم أكتب لأنفِّس عن نفْسي ، لمتّ بالسكتة من فرط الإحساس بعذاب الناس ، وما تطحنهم به الحيا ة ، وما تصيبهم به قارعات القدر ، وما يلاقونه من عنت وظلم في العجلة الدوارة ) .

ظل البدوي شارعاً قلمه للدفاع عن أفكاره ومبادئه ... ظل واقفاً لم تنحن رأسه ، ولم يسخر قلمه من أجل منفعة أو مكسب .

ظل قلمه شامخاً ، لم ينكسر على عتبات السلاطين ، لقد استوعب جيداً قول الله سبحانه وتعالى " ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلا ". (70-الإسراء ) .

كان البدوي يعرف أن الإنسان غنياً أو فقيراً هو قيمة مكرمه يجب المحافظة عليها وحمايتها ، لا لنقتله
، وهذا ما وقر فى الوجدان الديني لرجل الليل " عمار" الذي يدرك بفطرته هذه المقولة إدراكاً كبيراً فيقول :
أيخلق الله الإنسان لنقتله... إن هذا لا يمكن أن يحدث ... إن الله الذي خلقه وهو الذي يميته "، وقال أيضاً " لأنى أعرف أن القتل جريمة لا تغتفر " ، وهذا الإدراك الديني الفطري الذي جعله فعلاً لم يقتل أحداً ، وهذه حقيقة فاجئ بها فتحي أفندي عندما سأله عن القتلى الذين قتلهم ، وأخبره أنه لم يقتل إلا اثنين ... الأول : صديقي في ميدان القتال لأريحه من عذابه الذي لا يطاق ، والثاني : ابني لما عرفت أنه سرق .

الواقعية :

التزم البدوي بالواقعية النظيفة ، محافظاً بذلك علي مشاعر المتلقى ... فحرص على انتقاء الحدث والشخصيات التي تضيف إلي الإنسان قيمة خلقية وفكرية ، ترتفع به من مهاوي اليأس التي تقضي عليه ، كما نرى في الواقعية غير النظيفة التي تعتمد على المضمون السيئ ، واللغة السيئة بدعوى استنطاق الشخصيات طبقاً لمستواها الاجتماعي ...

*** فالواقعية كما يرى الدكتور سعد أبو الرضا ليس المراد بها " نقل الواقع كما هو بما فيه من فوضى وعدم نظام ، أو ما فيه من تتابع الحقائق وتعاقبها ، والأحداث دون صلة ... وإنما على القاص
أن يقدم الحياة في نظام واتساق بعيداً عن الصدفة ، تبدو فيها الأحداث متتابعة مترابطة متناسقة " .
وكذلك يرى محمد فريد أبو حديد أن على الأديب أن يكون كما يشاء في مذهبه الأدبي " فليكن مثالياً أو واقعياً أو طبيعياً فلا حرج عليه فيما يذهب على شرط أن يكون أديباً صداقاً ، مخلصاً له وبوسيلته التي يؤدي بها رسالته ، على شرط أن يتمكن من إبلاغها للناس ، واضحة ، وتصل إلى قلوبهم ". ويبين أيضاً أن الأديب مسئول عن أن أدبه يجب أن يكون نابضاً بالحياة ، صادقاً تام الصدق نابعاً من حرارة إيمان بما يقول ، فإن أدبه عند ذلك يكون جميلاً يقع في النفوس وقعاً يشبه وقع عطر الزهرة في النفوس في الربيع ويشبه وقع طلعة الشمس في الشتاء أو النسيم بالليل في حرِّ الصيف " . فالأمر ليس في اختيار المذاهب الأدبية ، ولكن الأمر يرجع على ضرورة تقديم الإبداع الجميل الذي يؤثر في الإنسان تأثيراً إيجابياً جميلاً ، يهذب النفس ، ويفتح أبواب الأمل أمامها .

ثقافته:

عالم محمود البدوي القصصي رحب وثري يحتاج العديد من الدراسات النقدية ، لتبين جوانبه الفنية وتأثيره في أدباء جيلة .

يتميز البدوي بحسه الفنى وذوقه المثقف ، ورهافة الألفاظ ، ودقة اختيارها ، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف أبعاد الشخصية التى يرسمها بدقة من الداخل والخارج ، كما يصف المكان الذى ترتبط به الشخصية وصفا يجعل المتلقي يعيش في المكان ، ويرتبط به ارتباطاً شديداً ...

ويهتم البدوي أيضا بالأبعاد الاجتماعية والنفسية والخلقية...علاوة على ذلك له رؤية رحبة التي تستكشف المستقبل ، أما إذا كان الأديب ذا رؤية محدودة وقدرات فنية ضعيفة فلا يكون له أى تأثير ولا يكتب لعمله الخلود .

لم يكن البدوي أديباً منغلقاً محدود الثقافة ، بل كان أديباً متقناً دعمها برحلاته الداخلية والخارجية التي أكسبته خبرات كثيرة ظهر أثرها في إبداعه القصصي ، أخذ من الثقافة ما يشاء وما ينفعه ، فمن بيئته قرأ كتاب الطبيعة ووعي أسراره ، كان يصاحب الطبيعة ، ويعيش في أحضانها ، ثم تابع مشوار ثقافته في الداخل والخارج ، فاستفاد البدوي من خبرات هذه الرحلات ..

تهيأت عوامل كثيرة بيئية وتاريخية لتكوين شخصية البدوى ، فهو معتز بنفسه ، وقال عنه الدكتور عبد الحميد إبراهيم " امتص البدوي معطيات هذه البيئة وتفاعل معها وكون له صداقاته الكثيرة ، وتزوج منها ، وظلت علاقاته معها متنامية حتى أواخر حياته "

أحب البدوي قريته حباً كبيراً ، أحب أرضها وسماءها ، وزرعها ، وأهلها ، وليلها، إنها تعيش في وجدانه ، تطل عليه دائما في كتاباته . في ذكرياته ، فهو لم ينس منظر النسوة المجللات بالسواد في موكب دفن والدته ، " مما حفر مظاهره الحزينة في أعماقي إلى الدرجة التي تجعلني إلى الآن بعد مضي السنوات الطويلة أكره الجنازات كرهاً شديداً " .

ويبين البدوي أيضاً أنه يحب الليل حباً كبيراً " كنت أحس بعمق هذا الليل في المزارع والحقول والبساتين ، كنت أحس بعمق هذا السكون والظلام ، وما ينشأ فيه ويخرج منه من قطّاع طرق وغارات في الليل للسرقة والأخذ بالثأر ، ويبين البدوي أنه لا يمكن أن ينسى هذا الجو " .

لم يكتف البدوي ببيئته الصعيدية أو القاهرية ، بل رأى أن يكمل ثقافته في الخارج ، ليرى من رؤيته ، كان البدوى على وعي تام بأن الثقافة يجب أن تكتمل . وأن تجمع بين الإنسانية والمحلية ، لقد أدرك منذ فترة مبكرة أن المحلية وحدها لا تكفي ، وأن العالمية وحدها لا تكفي وان اجتماع الأمرين هو السبيل الوحيد لتحقيق الأدب ". (1)

ورغم اهتمام البدوي بالعالمية فإننا نراه يحذر من العالمية التي توقع في التجريدات ، والفلسفات ، وتعزل الأديب عن واقعه الحي فلا نستطيع معرفة أحلام الناس والتعبير عنها بصدق ..الشخصيات :
لم يعش البدوي في برج عاجي بعيداً عن الناس ، ينظر إليهم من فوق ، وهذا ما مكنه من التعبير مثلاً عن بيئته الصعيدية تعبيراً واضحاً مفصلاً يجعل المتلقي يعايش البيئة الصعيدية معايشة دقيقة ، فإذا كان نجيب محفوظ اهتم بالبيئة القاهرية ، وعبد الرحمن الشرقاوي اهتم بالبيئة الريفية ، فإن البدوي مع اهتمامه بالبيئات الأخرى اهتم بالبيئة الصعيدية بوجه خاص .

لهذا يرى البدوي أن الأدب ليس لعباً ولهوا ، ولكنه رسالة ينوء بها كاهل الأديب خاصة الأديب الصادق الذي يكرس إبداعه لخدمة المجتمع وإصلاحه ، وبناء الإنسان بناء إيجابياً فاعلاً في المجتمع.
والبدوي لا يفرض نفسه على شخصياته ، ولكنه يتركها تتصرف بطبيعتها ، وشخصيات البدوي ليست كلها خيّرة وإيجابية ، ولكن يوجد شخصيات سلبية وشريرة فاسدة تضر نفسها وتضر المجتمع ، ومثل هذه الشخصيات لا يتركها لحالها ، ولكنه يبين الظروف التي دفعت بهذه الشخصيات إلى التدمير ،
ويؤكد البدوي أن الإنسان عندما يفقد إرادته يفقد كل شيء ، وينحدر إلى الهاوية لأنه لا يملك القدرة على التحكم في سلوكه ... في تفكيره نتيجة عدم الخبرة أو أنه غير مثقف .
وقد ناقش البدوي هذه القضية في قصة " صوت الدم " وقصة " الأعمى " . الذي أخطأ معها ، وحدثت نفسها عن هذه الجريمة التي لن يغفرها لها أحد ، ولما وصلت إلى البيت وجدت زوجها نائماً ، واستيقظ عند سماع صوتها ، فطلب منها أن تسقي البقرة وتعلفها . وينهي الكاتب موقف جميلة وزوجها بهذا الحوار عندما سمع صوتها تبكي :

- ـ ما الذي جرى .. ؟
- فلم ترد وزاد نحيبها ..
- ـ ما الذي جرى .. ؟
وانتصب وأطل على صحن البيت ...
ـ ما الذي جرى .. ؟
ـ الجـ ... الجرة ... آه ... إهئ
ـ كسرت .. ؟
ـ أجل ... آه ... إهئ
ـ وهل تستحق كل هذا البكاء .. ؟
ـ كفى
ـ آه ... إهئ ... آه
ـ كفى ..؟
ـ بصوت راعد
فحبست زفراتها وغيضتْ عبراتها ودفنت وجهها في حجرها ونام الزوج وشخر ...
وينتهي الموقف باللهجة الساخرة من الزوج الذى لم يذكر في سبب تأخير زوجته
.
أما بالنسبة للشيخ سيد مؤذن مسجد القرية الأعمى ... الذي رتبت الظروف موقف اللقاء الجنسي الذي رسمه البدوي بدقة ونعومة حتى انتهى إلى النتيجة التي يريدها الشيخ " سيد " لكن الله لم يتركه فقد سلط عليه الأولاد يقذفونه بالحجارة حتى خرج من القرية ... ووجد في الصباح جثة هامدة
...

وتبدو براعة البدوي في الحديث النفسي لجميلة بعد الخطيئة وإبراز خوفها من زوجها وصديقاتها وأهل القرية ...

هكذا نتبين أنه عندما يفقد الإنسان إرادته ، ينهد كيانه ، فيفقد نفسه ويضر المجتمع ... لقد فقد الشيخ " سيد " الأعمى حياته عندما خرج عن دائرته الإيمانية ، وأكلته الشهوة ...

اللوحات الفنية :

لقد أثر في البدوي عوامل ثلاثة :
البيئة الصعيدية .2- البيئة القاهرية .3- السفر إلى الخارج .

أمدته هذه البيئات بخبرات متنوعة أثرت تجربته القصصية ، لم يقف البدوي عند حدود الأخذ من البيئة ما يريده . ثم يعيده إليها كما هو ، ولكن يعيده إلى بيئته ثانية مزوداً بالخبرات الجديدة .
وكما اهتم البدوي بوصف الشخصيات من الخارج والداخل ، اهتم أيضاً بوصف المكان وصفاً دقيقاً ، لحركة الطبيعة وسكونها ، والعلاقة الحميمة بين الشخصيات والمكان .

لنقرأ اللوحة التالية لنرى دقة البدوي في رسم اللوحة ، ففي قصة " الطلقة الأخيرة " يقول صـ77 :
( وكانت حولنا ... الماشية والطيور متروكة على سجيتها ، وهواها ، وكانت الجمال باركة تجْتر ... والثيران والأبقار في صف واحد ، وأمامها التّبن المخلوط بالفول والنخالة ... والجاموس بعد أن استحمّ ... في النيل ... نام على الحشائش وجلده يلمع تحت ضوء الشمس ... وطيور الدجاج ... والبط ... والأوز ... ترعى الحبّ ... كما اتفق ... وتستحم في مجراة " الوابور " .
وكان بجوار الوابور ... صف من المساكن ... من الطين والبوص وجريد النخيل ..

لنقرأ أيضاً وصفه للدلالة " ناعسة " التي تبيع لأهل القرية ما يحتاجونه من أشياء فيقول :
" وفي يوم مرّت على الأجران امرأة ، وكانت تحمل على رأسها صُرّة كبيرة فيها كل ما يحتاجه الفلاح ... من دخان ومناديل ... وكل أصناف الأقمشة الشعبية ... ولما رأتني وحدي في الخص اقتربت مني ... ورأيت لها وجهاً صبوحاً وعينين دعجاوين ... وفما غليظ الشفة ... وحسنة كبيرة على الخد وحلقة مغروسة في الأنف الدقيق ... وعرضت كل ما عندها من بضاعة ... وألحّتْ لأشتري منها شيئاً بدلال الأنثى الناضجة ... ولكنى رفضت فذهبت بهدوء الأنثى إلى النخيل " ص 181 .

ونقدم نموذجاً آخر يبين شهامة الإنسان الريفي الصعيدي في وقت الشّدّة ، لا يتأخر أحد عن المساعدة مهما كان فيها من مخاطر ، كما في قصة " الغول " وهي تبين موقف الريفي المتعاون وقت الشدة سواء كان لصديق أو عدو، فالفيضان خطر داهم يجعل الفلاحين يستعدون له، لقد ألقوا أنفسهم في النيل محاولين سد البئر، ووقفوا بجانب الشيخ ماهر أحد أثرياء القرية المعذبين للفلاحين ، ورغم هذا وقفوا بجانبه عندما ازداد الخطر وبحثوا عنه فوجدوه جثة هامدة ... وقد وفق البدوي في اختيار عنوان " الغول " وهو يعبر عن المضمون تعبيراً مخيفاً رهيباً .

ونجد هذا الموقف أيضاً في قصة " الفيضان " للكاتبة السودانية بثينة خضر مكي ، هاجمهم في قريتهم السودانية الفيضان ، وحطم كل شيء وغالبه الشباب ولكن انتصر الفيضان وقتل شاباً آثر أن يسد القناة بجسده طوال الليل ... وفي الصباح وجدوه ميتاً .

الجدير بالإشارة أن سلوك الشخصيات وقت الخطر سلوك طبيعي ينبعث من قيمة الفطرية التي تربىّ عليها ، وتدفعه إلى السلوك الإيجابي لإنقاذ الموقف الخطير .

ويؤكد البدوي دائماً على أن شخصياته مؤسسة على الخير والعطاء وهكذا عند الصراع بين الخير والشر ينتصر الخير دائماً .

ويحرص البدوي على بيان الظروف التي حققت النصر والظروف التي حققت الهزيمة ؛ كما في قصة " صوت الدم " ، لأن هذه الظروف البيئية هي التي تؤثر في الإنسان وتغيّره من حال إلى حال ، وهي :
1- الأسرة .2- المدرسة .3- المجتمع .4- الأصدقاء .

وهذه مؤثرات لا يستهان بها في تغيير حال الإنسان فتهتز قيمه ، وسلوكه ، فيتحول الإنسان في هذه اللحظة إلى عدو للمجتمع .

والحوار في قصص البدوي ، يدخل في نسيج القصة ، ومؤثر وفاعل في تغيير الشخصية إلى الخير والشر ، وهذا ما رأيناه في شخصية " عبد الحق " في قصة " صوت الدم " .

استمع إلى حوار ركاب المركب ووجهات النظر في الاعتداء على الإنسان ، وصد هذا العدوان ، وبعد أن شحنت أحاسيسه ومشاعره واستمد منها القوة ، قام ، وتربص بقاتل ابنه وهو " علام "، وقتله .
وينهي الكاتب القصة ببيان إحساس الراحة الذي استولى على عبد الحق بعد قتل " علام " قاتل ابنه .
ماذا فعل عبد الحق .. ؟" اتجه عبد الحق إلى المقبرة لأول مرة بعد حادث ابنه ولقيه في الطريق وهو راجع منها قبل الفجر مجذوب من هؤلاء المجاذيب الذين يترددون على الأذكار ، فشخص في وجهه ، ثم مد يده وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء ، وقال له : إنا لله ......" .
فانتفض عبد الحق ومد يدا ترتعش والتقت أعين الرجلين ، وكانت عينا المجذوب تلمعان في بلاهة وخبث ، أما عينا عبد الحق فقد أخذتا تنطفئان بالتدريج .

وفي كلمتين يلمح البدوي بما في صدر الرجلين ، المجذوب عيناه تلمعان في بلاهة وخبث ، أي أنه يعرف ما نفذه عبد الحق ، أما عبد الحق فقد انطفأت عيناه ، أي هدأت نفس عبد الحق بعد الأخذ بثأر ابنه .

كان الكاتب الكبير محمود البدوي - رحمه الله - راهباً للقصة القصيرة ، أعطاها كل فنه وحياته فأعطته الخلود ...

إنه من الكتاب الذين أخلصوا للكلمة لم يخضع لأعزاء أو تهديد ، وعاش حياته قامته طويلة شامخة ، مملوءة نفسه بحب الله وبحب الوطن الكبير . وقريته التي تربى فوق أرضها وشرب من مائها ... فكان مثالاً للإخلاص لمبادئه ، ولم يتخل عن الفقراء والمطحونين حتى آخر لحظة من حياته .
ألا يستحق هذا الكاتب الكبير أن يتذكره الوطن ، وتحتفل به المؤسسات الثقافية ، فهل يلقى عليه الضوء تقديرا لدوره الأدبي الكبير .
***
محمود البدوي/ الكلمة... المقاومة

الإنسان في صراعه مع الحياة في حاجة إلى الفنون لأن الفنون التي ابتدعها الإنسان ، ما كانت إلا لبث روح المقاومة في صراعه مع القوى الأخرى التي تهدده وتعرض كيانه للخطر .
والكلمة لها أثر هام في دعم إرهاصات الإحياء القومي ، وفي حياة الإنسان فهي تشد من عزمه لمواجهة التحدي .

وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام أثر الكلمة في الكفار " والذي نفسي بيده ، كأن ما ترمونهم به نضح النبل "، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الحديث التالي " أهج المشركين فإنه أشد عليهم من رشق النبل " .

وقد عبر البدوي عن شعوره الوطني تعبير الإنسان المحب لوطنه ، المستعد للدفاع عنه ... ودفعه هذا الحب إلى تسجيل المشوار الوطني في إبداعه مبرزا دور الشعب في المقاومة ، وأشار إلى دور أسيوط في ثورة 1919 ، لقد قاوم الاحتلال الإنجليزي بكل ما يملك من إمكانيات ، مقدما روحه فداء للوطن غير هياب ولا وجل .

فعندما اشتعلت الثورة المصرية في سنة 1919، احتل الإنجليز المنطقة الواقعة حول خزان أسيوط ، وتحصن الإنجليز في المدرسة الثانوية ، تمركز الأهالي في قرية الوليدية ، وسارع إليهم أهالي القرى المجاورة وانتصروا عليهم وقد عبر الكاتب عن هذه الأحداث في قصته " حدث ذات ليلة " (مصر في قصص محمود البدوي : علي عبد اللطيف ، ليلي محمود البدوي ) .

كما يواصل البدوي التعبير عن معدن الإنسان المصري في مقاومة الاحتلال هذه المقاومة التي دارت في مدن القنال ، واشترك فيها الرجال والنساء والأطفال ، وواجهوا الغرور الاستعماري بأسلحته الجبارة ... كما في قصته " عند البحيرة "، وأبرز دور المرأة في المشاركة في ميدان القتال بجانب الرجال ( مصر في قصص محمود البدوي : علي عبد اللطيف ، ليلي محمود البدوي ) .ثم بعد ذلك كتب البدوي عن حرب 1967 ، عام الهزيمة ، عام الانكسار للإنسان العربي ، لقد ملأت بيانات الإذاعة البالونية الإنسان المصري بالفخر والفرحة لهزيمة العدو ، ولكن ما لبث أن انكشفت الحقيقة المًرة ، وطعن كل إنسان مصري و عربي في قلبه ، خاصة بعد ما سمعوا الحقيقة عما عاناه الجنود في صحراء سيناء من متابعه لهؤلاء العزل، ولم يرحمهم الإسرائيليون ، وقد صور ذلك محمود البدوي في قصة " الشبابيك " كما بين الأستاذ علي عبد اللطيف ، فقال البدوي : "منذ تسع سنوات كنت في ألمانيا الغربية ، أعمل في شركة تصنع وتبيع السيارات ... شركة كبيرة لها فروع في جميع أنحاء العالم ، وكنت في رغد من العيش ، واستقر بي المقام ، وكانت الأيام جميلة ... كأنها أحلام ... ثم حدثت هزيمة 1967 ، وأحس جميع المصريين في ألمانيا بلطمة ، وكانت لطمتي أشد اللطمات ، لأنني كنت أكثر المصريين حماسة وضراوة ، لسحق اليهود ، فإذا بي أتلقى القارعة ونظرات السخرية والاحتقار من الجميع ... وفي ليلة ليلاء . قررت أن أعود لبلدي ، وأواجه العاصفة ككل مصري يعيش على أرضها "
. وفي قصة " بائع العطور " يقول البدوي :

" وأحس إسماعيل لوطنيته المتأصلة بطعنه دامية ... كأنه هو السبب في هذه الهزيمة ، تغير حاله وشحب لونه . ثم أصيب بشيء أشبه بالشّلل ... " فهكذا نرى البدوي يصف مشاعر الإنسان المصري والعربي تجاه الهزيمة التي هزت مكانة المصريين في الخارج وأصبحوا مثالا للسخرية ...

أما في حرب أكتوبر 1973 ، الحرب التي رفعت قامة مصر عالية ، ونال التقدير الجندي المصري الشجاع الذي عبر خط بارليف ، ورفع العلم المصري على شرق القناة ، وكانت الحرب في شهر رمضان الكريم ، وخاض الجنود الحرب وهم صائمون ، متكلين على الله ...
فكان الله بجانبهم ، وتحقق النصر الكبير ، وكانت الفرحة العميقة التي عمت كل طوائف الشعب ، وقد
بين البدوي في قصة " حوار في الطريق " أمنيته أن يحمل على بساط الريح وينطلق ليدمر كل المصانع التي تصنع الدمار والخراب للبشر ، القنبلة الذرية ... وقنبلة الكوبالت والهيدروجين ... وكل ما يجيء بعدها وكل ما يحطم الحضارة ويشل عقل الإنسان ... وكل ما يشوه الجمال والسكون ويمنع الحقيقة من أن تنطلق من الأفواه ... وكل ما يقتل روح البشر " . ( مصر في قصص محمود البدوي ، علي عبد اللطيف ) .من هذا نتبين صدق محمود البدوي في تصوير اللحظة سواء كانت انتصاراً أو هزيمة ، مبينا أثر ذلك على الشعب المصري الأصيل الذي يتلقى أي مناسبة بعقل أو فرحة أو حزن بتدبر .

رؤية البدوي الفنية والاجتماعية :

1- يرى البدوي أن الأديب يجب أن يكون معبراً عن أحلام الإنسان ، ولن يتأتى ذلك إلا إذا عايش الإنسان معايشة تؤهله لاكتشاف نفسيته ، والوقوف على طموحاته .
2- الواقعية ليست نقل الواقع كما هو ولكن على الأديب أن يحسن الاختيار حتى لا يضيف إلى الإنسان هماً على هم ، وعلى الأديب أن يغرس التفاؤل والأمل في حياة جديدة تدفعه إلى العمل لإعمار الأرض كما أمرنا الله .

3- الكلمة أمانة ينوء بحملها الإنسان ، فعليه أن يحافظ عليها ، ويخلص لها ، فعليه بالكلمة الطيبة البناءة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .

4- المتابع لإبداع البدوي القصصي يجد أنه التزم بالبيان الذي أعلنه بوقوفه بجانب المطحونين ، " لا أفتعل الحوادث، ولا أزينها ، أحاول الوقوف مع مكسوري الجناح من البشر ، ولو لم اكتب لأنفس عن نفسي لمت بالسكتة " .

5- الكتابة ليست ترفيها ، ولا تضليلاً للإنسان ، ولكنها مسئولية ، لم يتغير البدوي ، ولم يتخل عن مسئوليته ، إنها كلمة يؤمن بها يقولها واعتماده على الله .

6- يؤمن بأن كل إنسان فيه الخير والشر، فعلى الأديب أن يتعامل مع نقطة الخير لتبصير الإنسان بالطريق الصحيح .

الجوانب الفنية :

1- يستخدم الكاتب في القصص ضمير المتكلم وهذا يمكن الكاتب من استبطان الشخصية وتحليلها ، ويستخدم في البعض الآخر ضمير الغائب .

2- بعض القصص لم يسم الكاتب الشخصيات ، لتكون رمزا يعطي دلالة أرحب وأعمق ، وتبقى كأنماط إنسانية تنكر في المجتمع ولا تنتهي .
3- الكاتب يمهد للحدث ، ويهيئ له الجو بسلاسة وتنسيق .

4- ينهي الكاتب قصصه نهايات مختلفة .. قد تكون نهاية عادية مغلقة ، وقد تكون نهاية مفتوحة يطرحها الكاتب على هيئة أسئلة يبحث عن إجابة ، وهنا يأتي دور المتلقي .

5- الشخصيات ريفية حكيمة ، تحمل خبرات طويلة تؤهلها للحكم على الأمور بحكمة وروية .
6- الشخصيات متغيرة متطورة ، بتأثيرات خارجية أو أثر نفسي قوي يزلزل الشخصية ويدفعها إلى الطريق المستقيم .

7- الحوار يتراوح بين القصير والمتوسط ، ويستخدمه الكاتب استخداما فنيا يعمق الحدث ، ويدخل في نسيج القصة .

8- اعتمد الكاتب في قصصه على السرد الفني الذي يؤثر في فنية القصة ، ويبرز الصراع الداخلي في أعماق الشخصيات .

ويحرص الكاتب على تسلسل الأحداث ، ومنطقيتها ، مع حفظه على التوازن بين الفن والثقافة ، كما جاء الحوار في لغة عذبة ناعمة .

استخدم الكاتب ألفاظاً ذات دلالات فنية توحي بما في نفس الشخصية كما في قصة " صوت الدم " .

تعريف بالكاتب الكبير محمود البدوي:

- ولد محمود البدوي في قرية الأكراد مركز أبنوب بمديرية أسيوط في 4 ديسمبر عام 1908 .-
توفيت والدته وهو في السابعة من عمره وكانت في الثلاثين من عمرها .- قضى طفولته كلها في الريف حتى حصل على شهادة الابتدائية من مدرسة أسيوط الابتدائية .- التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية ، إبان عمادة الدكتور طه حسين ، وترك الدراسة وهو في السنة الثالثة قسم اللغة الإنجليزية ، وآثر أن يثقف نفسه تثقيفا ذاتيا ، فقرأ الأدب القديم والحديث والآداب الأجنبية بلغتها الأصلية .- ساهم إسهاماً حقيقياً في التعبير عن آمال الشعب في تغيير واقعه منذ صدور قصته " الرحيل " عام
1953 .- بلغت قصصه التي كتبها عن الريف والفلاحين في الصعيد 89 قصة .- كتب ما يزيد على 389 قصة قصيرة نشرت جميعها بالصحف والمجلات .- توفى في 12 فبراير 1986 .- التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان يقيم بالدار إقامة شبه دائمة، ويجد لذته الكبرى في القراءة والإطلاع فاستغرقت كل وقته ، وكان يشعر بالغبطة والسرور، والرضي النفسي كلما قرأ شيئاً جديداً ، يؤلمه عدم وجود الفراغ ليقرأ ويطلع من الكتب ما يشاء .قرأ الأدب الروسي مترجما إلى الإنجليزية ، ترجم إلى العربية قصة " الجورب الوردي " لتشيكوف ونشرت في مجلة الرسالة في العدد 20 - في 1/12/1933.

هامش:
محمود البدوي : سيرة : تقديم د . عبد الحميد إبراهيم – تأليف : علي عبد اللطيف ، ليلى محمود البدوي

* من أبحاث المؤتمر الأول للقصة القصيرة . نادي القصة بالقاهرة . يونيو 2007

ليست هناك تعليقات: